الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
أنا ما امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها .
فقال له تاج الملوك :
لابد من كوني أنظر إليها .
وألح عليه واغتاظ ، فأخرجها من تحت ركبتيه وبكى فقال له تاج الملوك :
أرى أحوالك غير مستقيمة فأخبرني ما سبب بكائك عند نظرك إلى هذه الخرقة ?
فلما سمع الشاب ذكر الخرقة ، تنهد وقال :
يا مولاي إن حديثي عجيب وأمري غريب ، مع هذه الخرقة وصاحبتها وصاحبة هذه الصور والتماثيل .
ثم نشر الخرقة وإذا فيها غزال مرقومة بالحرير مزركشة بالذهب الأحمر وقبالها صورة غزال آخر وهي مرقومة بالفضة وفي رقبته طوق من الذهب الأمر وثلاث قصبات من الزبرجد فلما نظر تاج الملوك إليه وإلى حسن صنعته قال :
سبحان الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم .
وتعلق قلب تاج الملوك بحديث هذا الشاب فقال له :
احك لي قصتك مع صاحبة هذا الغزال .
فقال الشاب :
اعلم يا مولاي أن أبي كان من التجار الكبار ولم يرزق ولداً غيري وكان لي بنت عم تربيت أنا وإياها في بيت أبي لأن أباها مات ، وكان قبل موته تعاهد هو وأبي على أن يزوجاني بها فلما بلغت مبلغ الرجال وبلغت هي مبلغ النساء لم يحجبوها عني ولم يحجبوني عنها ، ثم تحدث والدي مع أمي وقال لها :
في هذه السنة نكتب كتاب عزيز على عزيزة .
واتفق مع أمي على هذا الأمر ثم شرع أبي في تجهيز مؤن الولائم هذا كله وأنا وبنت عمي ننام مع بعضنا في فراش واحد ولم ندر كيف الحال وكانت هي أشعر مني ، وأعرف وأدرى ، فلما جهز أبي أدوات الفرح ولم يبق غير كتب الكتاب ، والدخول على بنت عمي أراد أبي أن يكتب الكتاب بعد صلاة الجمعة ، ثم توجه إلى أصحابه من التجار وغيرهم وأعلمهم بذلك ومضت أمي عزمت صواحباتها من النساء ودعت أقاربها .
فلما جاء يوم الجمعة غسلوا القاعة المعدة للجلوس وغسلوا رخامها وفرشوا في دارنا البسط ووضعوا فيها ما يحتاج إليه الأمر بعد أن زوقوا حيطانها بالقماش المقصب واتفق الناس أن يجيئوا بيتنا بعد صلاة الجمعة ثم مضى أبي وعمل الحلويات وأطباق السكر وما بقي غير كتب الكتاب ، وقد أرسلتني أمي إلى الحمام وأرسلت خلفي بدلة جديدة من أفخر الثياب ، فلما خرجت من الحمام لبست تلك البدلة الفاخرة وكانت مطيبة فلما لبستها فاحت منها رائحة زكية عبقت في الطريق ، ثم أردت أن أذهب إلى الجامع فتذكرت صاحباً لي فرجعت أفتش عليه ليحضر كتب الكتاب وقلت في نفسي :
أشتغل بهذا الأمر إلى أن يقرب وقت الصلاة .
ثم إني دخلت زقاقاً ما دخلته قط وكنت عرقان من أثر الحمام والقماش الجديد الذي على جسدي فساح عرقي وفحت روائحي فقعدت في رأس الزقاق لأرتاح على مصطبة ، وفرشت تحتي منديلاً مطرزاً كان معي فاشتد الحر فعرق جبيني وصار العرق ينحدر على وجهي ولم يمكن مسح العرق عن وجهي بالمنديل لأنه مفروش تحتي ، فأردت أن آخذ ذيل فرجيتي وأمسح وجنتي فما أدري إلا ومنديل أبيض وقع علي من فوق وكان ذلك المنديل أرق من النسيم ورؤيته ألطف من شفاء السقيم فمسكته بيدي ورفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل ، فوقعت عيناي في عين صاحبة هذا الغزال .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
الليلة التاسعة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فرفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال وإذا بها مطلة من طاقة من شباك نحاس لم تر عيني أجمل منها ، وبالجملة يعجز عن وصفها لساني فلما رأتني نظرت إليها وضعت إصبعها في فمها ثم أخذت إصبعها الوسطاني وألصقته بإصبعها الشاهد ووضعتهما على صدرها بين نهديها ثم أدخلت رأساً من الطاقة وسدت باب الطاقة وانصرفت فانطلقت في قلبي النار وزاد بي الاستعار وأعقبتني النظرة ألف حسرة وتحيرت لأني لم أسمع ما قالت ولم أفهم ما به أشارت فنظرت إلى الطاقة ثانياً ، فوجدتها مطبوقة فصبرت إلى مغيب الشمس فلم أسمع حساً ولم أر شخصاً فلما يئست من رؤيتها قمت من مكاني وأخذت المنديل معي ، ثم فتحته ففاحت منه رائحة المسك حصل لي من تلك الرائحة طرب عظيم حتى صرت كأنني في الجنة ، ثم نشرته بين يدي فسقطت منه ورقة لطيفة ففتحت الورقة فرأيتها مضمخة بالروائح الزكيات ومكتوب عليها هذه الأبيات :
بعثت له أشكو من ألم الجوى ........ بخط رقيق والخطوط فنون
فقال خليلي ما لخطك هـكذا ........ رقيقاً دقيقاً لا يكـاد يبـين
فقلت لأني في نحـول ودقة ........ كذا خطوط العاشقين تكون
ثم بعد أن قرأت الأبيات أطلقت في بهجة المنديل ، نظر العين فرأيت في إحدى حاشيته تسطير هذين البيتين :
كتب العذار ويا له من كاتـب ........ سطرين في خديه بالريحان
وأخيرة القمرين منه إذا بـدا ........ وإذا انثنى وأخجله الأغصان
وسطر الحاشية الأخرى هذين البيتين :
كتب العـذار بعنبـر فـي لـؤلـؤ ........ سطرين من سبج علـى تـفـاح
القتل في الحدق المراضي إذا رنت ........ والسكر في الوجنات لا في الراح
فلما رأيت ما على المنديل من أشعار انطلق في فؤادي لهيب النار ، وزادت بي الأشواق والأفكار وأخذت المنديل والورقة وأتيت بهما إلى البيت وأنا لا أدري لي حيلة في الوصال ولا أستطيع في العشق وتفصيل الأجمال ، فما وصلت إلى البيت إلا بعد مدة من الليل فرأيت بنت عمي جالسة تبكي فلما رأتي مسحت دموعها وأقبلت علي وقلعتني ثيابي وسألتني عن سبب غيابي وأخبرتني أن جميع الناس من أمراء وكبراء وتجار وغيرهم قد اجتمعوا في بيتنا وحضر القاضي والشهود ، وأكلوا الطعام واستمروا مدة جالسين ينتظرون حضورك من أجل كتب الكتاب فلما يئسوا من حضورك تفرقوا وذهبوا إلى حال سبيلهم وقالت لي :
أباك اغتاظ بسبب ذلك غيظاً شديداً وحلف أنه لا يكتب كتابنا إلا في السنة القابلة لأنه غرم في هذا الفرح مالاً كثيراً .
ثم قالت لي :
ما الذي جرى لك في هذا اليوم حتى تأخرت إلى هذا الوقت وحصل ما حصل بسبب غيابك ?
فقلت لها :
جرى لي كذا وكذا .
وذكرت لها المنديل وأخبرتها بالخبر من أوله إلى آخره فأخذت الورقة والمنديل ، وقرأت ما فيهما وجرت دموعها على خدودها وأنشدت هذه الأبيات :
من قال أول الهـوى اخـتـيار ........ فقل كذبت كلـه اضـطـرار
وليس بعد الاضـطـرار عـار ........ دلت على صحتـه الأخـبـار
ما زيفت على صحـيح الـنـقـد
فإن تشـأ فقـل عـذاب يعـذب ........ أو ضربان في الحشى أو ضرب
نعــمة أو نـقـــمة أو أرب ........ تأتنس النفس له أو تـعـطـب
قد حـرت بين عكـسه والطـرد
ومـع ذا أيامـه مـواســـم ........ وثغرهـا على الـدوام بـاسـم
ونفحـات طـيبـهـا نـواسـم ........ وهو لكل مـا يشـين حـاسـم
ما حل قط قلـب نـذل وغـد
ثم إنها قالت لي :
فما قالت لك وما أشارت به إليك ?
فقلت لها :
ما نطقت بشيء غير أنها وضعت إصبعها في فمها ثم قرنتها بالإصبع الوسطى وجعلت الإصبعين على صدرها وأشارت إلى الأرض ثم أدخلت رأسها وأغلقت الطاقة ولم أرها بعد ذلك فأخذت قلبي معها فقعدت إلى غياب الشمس أنها تطل من الطاقة ثانياً فلا تفعل فلما يئست منها قمت من ذلك المكان وهذه قصتي وأشتهي منك أن تعينيني على ما بليت .
فرفعت رأسها إلي وقالت :
يا ابن عمي لو طلبت عيني لأخرجتها لك من جفوني ، ولا بد أن أساعدك على حاجتك وأساعدها على حاجتها فإنها مغرمة بك كما أنك مغرم بها .
فقلت لها :
وما تفسير ما أشارت به ?
قالت :
أما موضع إصبعها في فمها فإنه إشارة إلى أنك عندها بمنزلة روحها من جسدها وإنما تعض على وصالك بالنواجذ وأما المنديل فإنه إشارة إلى سلام المحبين على المحبوبين وأما الورقة فإنها إشارة إلى أن روحها متعلقة بك وأما موضع إصبعيها على صدريها بين نهديها ، فتفسيره أنها تقول لك بعد يومين تعال هنا ليزول عني بطلعتك العناء ، اعلم يا ابن عمي أنها لك عاشقة وبك واثقة وهذا ما عندي من التفسير لإشارتها ولو كنت أدخل وأخرج لجمعت بينك وبينها في أسرع وقت وأستركما بذيلي .
قال الغلام :
فلما سمعت ذلك منها شكرتها على قولها وقلت في نفسي :
أنا اصبر يومين .
ثم قعدت في البيت يومين لا أدخل ولا أخرج ولا آكل ولا أشرب ووضعت رأسي في حجر ابنة عمي وهي تسلني وتقول :
قوي عزمك وهمتك طيب قلبك وخاطرك .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
الليلة الأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فلما انقضى اليومان قالت لي ابنة عمي :
طب نفساً وقر عيناً والبس ثيابك وتوجه إليها على الميعاد ثم إنها قامت وغيرت أثوابي وبخرتني .
ثم شددت حيلي وقويت قلبي وخرجت وتمشيت إلى أن دخلت الزقاق وجلست على المصطبة قناعه وإذا بالطاقة قد انفتحت فنظرت بعيني إليها ، فلما رأيتها وقعت مغشياً علي ثم أفقت فشددت عزمي وقويت قلبي ونظرت إليها ثانياً فغبت عن الوجود ، ثم استفقت فرأيت معها مرآة ومنديلاً أحمر ، رأتني شمرت عن ساعديها وفتحت أصابعها الخمس ، ودقت بها على صدرها بالكف والخمس أصابع ثم رفعت يديها وأبرزت الماء من الطاقة ، وأخذت المنديل الأحمر ودخلت به وعادت وأدلته من الطاقة إلى صوب الزقاق ثلاث مرات وهي تدليه وترفعه ثم عصرته ولفته بيدها وطأطأت رأسها ثم جذبتها من الطاقة وأغلقت الطاقة وانصرفت ، ولم تكلمني كلمة واحدة بل تركتني حيران لا أعلم ما أشارت به ، واستمريت جالساً إلى وقت العشاء ، ثم جئت إلى البيت قرب نصف الليل ، فوجدت ابنة عمي واضعة يدها على خدها وأجفانها تسكب العبرات وهي تنشد هذه الأبيات :
مالـي وللاحـي عـلـيك يعـنـف ........ كيف السلو وأنت غصـن أهـيف
يا طلعة سلبت فـؤادي وانـثـنـت ........ ما للهوى العذري عنها مصـرف
تركية الألحاظ تفـعل بـالـحـشـا ........ ما ليس يفعله الصقيل المـرهـف
حملتني ثقل الـغـرام ولـيس لـي ........ جلد على حمل القميص وأضعـف
ولقد بكيت دمـاً لقـول عـوازلـي ........ من جفن من تهوى بروعك مرهف
يا ليت قلبي مثل قـلـبـك إنـمـا ........ جسمي كخصرك بالنحافة ملتـف
لك يا أميري فـي الملاحة نـاظـر ........ صعب علي وحاجب لا ينـصـف
كذب الذي قال المـلاحة كـلـهـا ........ في يوسف كم في جمالك يوسـف
أتكـلف الإعراض عنـك مـخـافة ........ من أعين الرقباء كـم أتـكـلـف
فلما سمعت شعرها زاد ما بي من الهموم وتكاثرت علي الغموم ووقعت في زوايا البيت فنهضت إلي وحملتني وقلعتني أثوابي ومسحت وجهي بكمها ، ثم سألتني عما جرى لي فحكيت لها جميع ما حصل منها فقالت :
يا ابن عمي أما إشارتها بالكف والخمسة أصابع فإن تفسيره تعال بعد خمسة أيام وأما إشارتها بالمرآة وإبراز رأسها من الطاقة فإن تفسيره اقعد على دكان الصباغ حتى يأتيك رسولي .
فلما سمعت كلامها اشتعلت النار في قلبي وقلت :
بالله يا بنت عمي إنك تصدقيني في هذا التفسير لأني رأيت في الزقاق صباغاً يهودياً .
ثم بكيت فقالت ابنة عمي :
قوي عزمك وثبت قلبك فإن غيرك يشتغل بالعشق مدة سنين ويتجلد على حر الغرام وأنت لك جمعة فكيف يحصل لك هذا الجزع .
ثم أخذت بالكلام وأتت لي بالطعام فأخذت لقمة وأردت أن آكلها فما قدرت فامتنعت من الشراب والطعام وهجرت لذيذ المنام واصفر لوني وتغيرت محاسني لأني ما عشقت قبل ذلك ولا ذقت حرارة العشق إلا في هذه المرة فضعفت بنت عمي من أجلي وصارت تذكر لي أحوال العشاق والمحبين على سبيل التسلي في كل ليلة إلى أن أنام ، وكنت أستيقظ فأجدها سهرانة من أجلي ودمعها يجري على خدها ولم أزل كذلك إلى أن مضت الخمسة أيام فقامت ابنة عمي وسخنت لي ماء وحممتني وألبستني ثيابي وقالت لي :
توجه إليها قضى الله حاجتك وبلغك مقصودك من محبوبتك .
فمضيت ولم أزل ماشياً إلى أن أتيت إلى رأس الزقاق وكان ذلك في يوم السبت فرأيت دكان الصباغ مقفلة فجلست عليها حتى أذن العصر واصفرت الشمس وأذن المغرب ودخل الليل وأنا لا أدري لها أثراً ولم أسمع حساً ولا خبراً فخشيت على نفسي وأنا جالس وحدي ، فقمت وتمشيت وأنا كالسكران إلى أن دخلت البيت ، فلما دخلت رأيت ابنة عمي عزيزة وإحدى يديها قابضة على وتد مدقوق في الحائط ويدها الأخرى على صدرها وهي تصعد الزفرات وتنشد هذه الأبيات :
وما وجد أعرابية بان أهلـهـا ........ فحنت إلى بان الحجارة ورنده
إذا آنست ركباً تكفل شوقـهـا ........ بنار قرأه والدمـوع بـورده
بأعظم من وجدي بحبي وإنمـا ........ يرى أنني أذنبت ذنبـاً بـوده
فلما فرغت من شعرها التفتت إلي فرأتني أبكي فمسحت دموعها ودموعي بكمها وتبسمت في وجهي وقالت لي :
يا ابن عمي هناك الله بما أعطاك فلأي شيء لم تبت الليلة عند محبوبتك ولم تقض منها إربك .
فلما سمعت كلامها رفستها برجلي في صدرها فانقلبت على الإيوان فجاءت جبهتها على طرف الإيوان وكان هناك وتد فجاء في جبهتها فتأملتها قد انفتح وسال دمها .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
الليلة الحادية والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فلما رفست ابنة عمي في صدرها انقلبت على طرف الإيوان فجاء الوتد في جبينها وسال دمها فسكتت ولم تنطق بحرف واحد ، ثم إنها قامت في الحال وأحرقت حرقاً وحشت به ذلك الجرح وتعصبت بعصابة ومسحت الدم الذي سال على البساط وكأن ذلك شيء ما كان ، ثم إنها أتتني وتبسمت في وجهي وقالت لي بلين الكلام :
والله يا ابن عم ما قلت هذا الكلام استهزاء بك ولا بها وقد كنت مشغولة بوجع رأسي ومسح الدم في هذه الساعة قد خفت رأسي وخفت جبهتي فأخبرني بما كان من أمرك .
فحكيت لها جميع ما وقع لي منها في ذلك اليوم وبعد كلامي بكيت فقالت :
يا ابن عمي أبشر بنجاح قصدك وبلوغ أملك إن هذه علامة القبول وذلك أنها غابت لأنها تريد أن تختبرك وتعرف هل أنت صابر أو لا وهل أنت صادق في محبتها أو لا ، وفي غد توجه إليها في مكانك الأول وانظر ماذا تشير به إليك فقد قربت أفراحك وزالت أتراحك .
وصارت تسليني على ما بي وأنا لم أزل متزايد الهموم والغموم ، ثم قدمت لي الطعام فرفسته فانكبت كل زبدية في ناحية وقلت :
كل من كان عاشقاً فهو مجنون لا يميل إلى الطعام ولا يلتذ بمنام .
فقالت لي ابنة عمي عزيزة :
والله يا ابن عمي إن هذه علامة المحبة .
وسالت دموعها ولمت شقافة الزبادي ومسحت الطعام وجلست تسايرني وأنا أدعو الله أن يصبح الصباح .
فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح توجهت إليها ودخلت ذلك الزقاق بسرعة وجلست على تلك المصطبة وإذا بالطاقة انفتحت وأبرزت رأسها منها وهي تضحك ، ثم رجعت وهي معها مرآة وكيس وقصرية ممتلئة زرعاً أخضر وفي يدها قنديل ، فأول ما فعلت أخذت المرآة في يدها وأدخلتها في الكيس ثم ربطته ورمته في البيت ثم أرخت شعرها على وجهها ثم وضعت القنديل على رأس الزرع لحظة ثم أخذت جميع ذلك وانصرفت به وأغلقت الطاقة فانفطر قلبي من هذا الحال ومن إشاراتها الخفية ورموزها المخفية وهي لم تكلمني بكلمة قط فاشتد بذلك غرامي وزاد وجدي وهيامي ، ثم إني رجعت على عقبي وأنا باكي العين حزين القلب حتى دخلت البيت فرأيت بنت عمي قاعدة ووجهها إلى الحائط وقد احترق قلبها من الهم والغم والغيرة ولكن نكبتها منعتها أن تخبرني بشيء مما عندها من الغرام لما رأت ما أنا فيه من كثرة الوجد والهيام ، ثم نظرت إليها فرأيت على رأسها عصابتين إحداهما من الوقعة على جبهتها والأخرى على عينيها بسبب وجع أصابها من شدة بكائها وهي في أسوأ الحالات تبكي وتنشد هذه الأبيات :
أينما كنت لـم تـزل بـأمـان ........ أيها الراحل المقيم بقـلـبـي
ولك الله حيث أمـسـيت حـار ........ منقذ من صروف دهر وخطب
ليت شعري بـأي أرض ومغنى ........ أنت مستوطن بدار وشـعـب
إن يكن شربك الـقـراح زلالا ........ فدموعي من المحاجر شربـي
كل شيء سوى فراقك عـذب ........ كالتجافي بين الرقاد وجنـبـي
فلا فرغت من شعرها نظرت إلي فرأتني وهي تبكي فمسحت دموعها ونهضت إلي ولم تقدر أن تتكلم مما هي فيه من الوجد ولم تزل ساكتة برهة من الزمان ، ثم بعد ذلك قالت :
يا ابن عمي أخبرني بما حصل لك منها في هذه المرة .
فأخبرتها بجميع ما حصل لي فقالت لي :
اصبر فقد آن أوان وصالك وظفرت ببلوغ آمالك ، أما إشارتها لك بالمرآة وكونها أدخلتها في الكيس فإنها تقول لك :
اصبر إلى أن تغطس الشمس .
وأما إرخاؤها شعرها على وجهها فإنها تقول لك :
إذا أقبل الليل وانسدل سواد الظلام على نور النهار فتعال .
وأما إشارتها لك بالقصرية التي فيها زرع فإنها تقول لك :
إذا جئت فادخل البستان الذي وراء الزقاق .
وأما إشارتها لك بالقنديل فإنها تقول لك :
إذا جئت البستان فامش فيه وأي موضع وجدت القنديل مضيئاً فتوجه إليه واجلس تحته وانتظرني فإن هواك قاتلي .
فلما سمعت كلام ابنة عمي صحت من فرط الغرام وقلت :
كم تعديني وأتوجه إليها ولا أحصل مقصودي ولا أجد لتفسيرك معنى صحيحاً .
فعند ذلك ضحكت بنت عمي وقالت لي :
بقي عليك من الصبر أن تصبر بقية هذا اليوم إلى أن يولي النهار ويقبل الليل بالاعتكار فتحظى بالوصال وبلوغ الآمال وهذا الكلام صدق بغير يمين ، ثم أنشدت هذين البيتين :
درب الأيام تنـدرج ........ وبيوت الهم لا تلج
رب أمر عز مطلبه ........ قربته ساعة الفرج
ثم إنها أقبلت علي وصارت تسليني بلين الكلام ولم تجسر أن تأتيني بشيء من الطعام مخافة من غضبي عليها ورجاء ميلي إليها ولم يكن لها قصد إلا أنها أتت إلي وقلعتني ثم قالت :
يا ابن عمي اقعد معي حتى أحدثك بما يسليك إلى آخر النهار وإن شاء الله تعالى ما يأتي الليل إلا وأنت عند محبوبتك .
فلم ألتفت إليها وصرت أنتظر مجيء الليل وأقول :
يا رب عجل بمجيء الليل .
فلما أتى الليل بكت ابنة عمي بكاء شديداً وأعطتني حبة مسك خالص وقالت لي :
يا ابن عمي اجعل هذه الحبة في فمك فإذا اجتمعت بمحبوبتك وقضيت منها حاجتك وسمحت لك بما تمنيت فأنشدها هذا البيت :
ألا أيها العشاق بالـلـه خـبـروا ........ إذا اشتد عشق بالفتى كيف يصنع
ثم إنها قبلتني وحلفتني أني لا أنشدها ذلك البيت من الشعر إلا بعد خروجي من عندها .
فقلت لها :
سمعاً وطاعة .
ثم خرجت وقت العشاء ومشيت ولم أزل ماشياً حتى وصلت إلى البستان فوجدت بابه مفتوحاً فدخلته فرأيت نوراً على بعد فقصدته فلما وصلت إليه وجدت مقعداً عظيماً معقوداً عليه قبة من العاج والأبنوس والقنديل معلق في وسط تلك القبة وذلك المقعد مفروش بالبسط الحرير المزركشة بالذهب والفضة ، وهناك شمعة كبيرة موقودة في شمعدان من الذهب تحت القناديل وفي وسط المقعد فسقية فيها أنواع التصاوير وبجانب تلك الفسقية سفرة مغطاة بفوطة من الحرير وإلى جانبها باطية كبيرة من الصيني مملوءة خمراً وفيها قدح من بلور مزركش بالذهب وإلى جانب الجميع طبق كبير من فضة مغطى مكشفته فرأيت فيه من سائر الفواكه ما بين تين ورمان وعنب ونارنج وإترنج وكباد وبينها أنواع الرياحين من ورد وياسمين وآس ونسرين ونرجس ومن سائر المشمومات فهمت بذلك المكان وفرحت غاية الفرح وزال عني الهم والترح لكني في هذا الدار أحداً من خلق الله تعالى .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
الليلة الثانية والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
ولم أر عبداً ولا جارية ولا من يعاني هذه الأمور ، فجلست في ذلك المقعد أنتظر مجيء محبوبة قلبي إلى أن مضى أول ساعة من الليل وثاني ساعة وثالث ساعة فلم تأت واشتد بي الجوع لأن لي مدة من الزمان ما أكلت طعاماً لشدة وجدي ، فلما رأيت ذلك المكان وظهر لي صدق بنت عمي في فهم إشارة معشوقتي استرحت ووجدت ألم الجوع وقد شوقتني روائح الطعام الذي في السفرة لما وصلت إلى ذلك المكان .
واطمأنت نفسي بالوصال فاشتهت نفسي الأكل فتقدمت إلى السفرة وكشفت الغطاء فوجدت في وسطها طبقاً من الصيني وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبلة بالبهارات وحول ذلك الطبق أربع زبادي واحدة حلوى والأخرى حب الرمان والثالثة بقلاوة والرابعة قطايف وتلك الزبادي ما بين حلو وحامض ، فأكلت من القطايف وأكلت قطعة لحم وعمدت إلى البقلاوة وأكلت منها ما تيسر ثم قصدت الحلوى وأكلت ملعقة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعاً وأكلت بعض دجاجة وأكلت لقمة فعند ذلك امتلأت معدتي وارتخت مفاصلي وقد كسلت عن السهر فوضعت رأسي على وسادة بعد أن غسلت يدي فغلبني النوم ولم أعلم بما جرى لي بعد ذلك فما استيقظت حتى أحرقني حر الشمس لأن لي أياماً ما ذقت مناماً ، فلما استيقظت وجدت على بطني ملحاً وفحماً فانتصبت واقفاً ونفضت ثيابي وقد التفت يميناً وشمالاً فلم أجد أحداً ووجدت أني كنت نائماً على الرخام من غير فرش فتحيرت في عقلي وحزنت حزناً عميقاً وجرت دموعي على خدي وتأسفت على نفسي فقمت وقصدت البيت فلما وصلت إليه وجدت ابنة عمي تدق بيدها على صدرها وتبكي بدمع يباري السحب الماطرات وتنشد هذه الأبيات :
هب ريح من الحـي ونـسـيم ........ فأثار الهوى ينشر هبـوبـه
يا نسيم الصبا هـلـم إلـينـا ........ كل صب بحظه ونصـيبـه
أو قدرنا من الغرام اعتنقـنـا ........ كاعتناق المحب صدر حبيبه
حرم الله بعد وجـه ابن عمـي ........ كل عيش من الزمان وطيبه
ليت شعري هل قلبه مـثل قلبي ........ ذائب من حر الهوى ولهيبـه
فلما رأتني قامت مسرعة ومسحت دموعها وأقبلت علي بلين كلامها وقالت :
يا ابن عمي أنت في عشقك قد لطف الله بك حيث أحبك من تحب وأنا في بكائي وحزني على فراقك من يلومني ، ولكن لا آخذك الله من جهتي .
ثم إنها تبسمت في وجهي تبسم الغيظ ولاطفتني وقلعتني ثيابي ونشرتها وشمتها وقالت :
والله ما هذه روائح من حظي بمحبوبه فأخبرني بما جرى لك يا ابن عمي .
فأخبرتها بجميع ما جرى لي فتبسمت تبسم الغيظ ثانياً وقالت :
إن قلبي ملآن موجع فلا عاش من يوجع قلبك ، وهذه المرأة تتعزز عليك تعززاً قوياً والله يا ابن عمي إني خائفة عليك منها ، واعلم يا ابن عمي أن تفسير الملح هو أنك مستغرق في النوم فكأنك دلع الطعم بحيث تعارفك النفوس فينبغي لك أن تتملح حتى لا تمجك الطباع ، لأنك تدعي أنك من العشاق الكرام والنوم على العشاق حرام فدعواك المحبة كاذبة وكذلك هي محبتها لك كاذبة لأنها لما رأتك نائماً لم تنبهك ، ولو كانت محبتها لك صادقة أنبهتك ، وأما الفحم فإن تفسير إشارته سود الله وجهك حيث ادعيت المحبة كذباً وإنما أنت صغير لم يكن لك همة إلا الأكل والشرب والنوم فهذا تفسير إشارتها فالله يخلصك منها .
فلما سمعت كلامها ضربت بيدي على صدري وقلت :
والله إن هذا هو الصحيح لأني نمت والعشاق لا ينامون فأنا الظالم لنفسي وما كان أضر علي من الأكل والنوم فكيف يكون الأمر .
ثم إني زدت في البكاء وقلت لابنة عمي :
دليني على شيء أفعله وارحميني يرحمك الله وإلا مت .
وكانت بنت عمي تحبني محبة شديدة .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
انواع عرض الموضوع |
![]() |
![]() |
![]() |